الثلاثاء، 15 نوفمبر 2022

حكاية الانسان مع الماء


 حكايتنا مع الماية حكاية غريبة جدا..

 أول علاقة لينـا مـع الماية كانت في الرحـم.. لما كان كل واحد فينـا غرقان في السائل الأمنيوسي وعامـل زي السمكة اللي عايشة في البحـر.. حالـة جميلـة مـن المتعة والهدوء والدفا.. الأكل والشرب بيوصـل لغايـة عنـدك.. حـي الأكسجين مـش بتبـذل أي مجهـود علشان تحصـل عليـه.. قمـة الأمـان والاطمئنان والرفاهيـة.. مـلـك متـوج عـلى عـرش الرحـم.. مـا فيـش خـوف.. مـا فيـش ألم.. مـا فيـش مسئولية.. جنـة كاملة بكل مواصفاتهـا وتفاصيلهـا..


 لغايـة مـا يجـي اليـوم الموعود.. وتتزلزل الأرض مـن تحتـك.. وتنهـار السـمـا مـن فـوقـك.. وتنفجـر شلالات المياه من كل ناحيـة، وتنقبـض عليـك جـدران الرحـم بـكل قسوة، علشان تطردك من جنتك زي مـا أبـوك آدم اتطـرد مـن جنتـه بالظبط.. وتنزل على الأرض .. ويبدأ الخـوف، والألم، والمسئولية..


 زي ما قولنـا قـبـل كـده، كتير من الأمراض النفسية يمكن تفسيرها مـن وجهـة نظـر معينـة عـلى إنهـا رجـوع للخلـف Regression في تاريخ تطورنا ونمونـا النفسي لغايـة آخـر لحظـة كنـا فيهـا في أمـان وتـوازن نفـسي.. ومـن أصعـب الأمـراض دي مرض الفصـام اللي المريض بيرجع فيـه لغاية المرحلة الفميـة مـن نمـوه النفسي (تبـدأ مـن الـولادة حتـى سـن سـنتين)، والـلي كان فيهـا بيهلـوس ويتخيـل حـاجـات مـش موجـودة يسلي بيها نفسه في غياب أمـه.. فيـه مـرضى قليلين جـدا بيرجعـوا أكـتر شـوية لغايـة حيـاة الرحـم.. وتصيبهم حالة نفسية وجسدية نادرة ياخدوا فيهـا وضع الجنين. . علشان ده الوضـع والوقت والمكان الوحيـد الـلي كان فيـه أمـان بالنسبة ليهـم..فيـه ظاهـرة شهيرة جدا في بعض المرضى النفسيين اللي عندهـم أمـراض زي الفصـام، والهـوس.. وهـي إنهـم بيحبـوا المايـة ويبقـوا عاوزيـن يشربـوا مـايـة كـتـير جـدا.. لدرجـة أن بعضهم بيحصلـه مشـاكل عضويـة بسبب زيادة نسبة المايـة في الجسـم (تسـمم المياه).. ورغـم إن فيـه تفسيرات كتير للظاهـرة دي.. لكـن مـن أهـم تفسيراتها النفسية هي رغبة المرضى دول في الاتصال بالمايـة والغوص فيهـا زي مـا كـانـوا زمـان في الرحـم.


 السؤال بقى.. هو إحنا فاكرين حياتنا في الرحم؟ هو عقلنا لسه محتفظ بذكرياتنا في بطون أمهاتنا؟ هي قدرات ذاكرتنا تقدر توصل للدرجة دي؟ والإجابة بكل وضوح ومباشرة: نعم.. أيون.. فعلاً.. جدا..


 فيه عالم نفسي شهير اسمه ستانيسلاف جـروف Stanislav Grof عمـل مجموعة هائلـة مـن الأبحاث والتجارب عـلى كـتـير مـن الناس في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي (وما زال لغاية النهاردة)، باستخدام طريقة معينة يخليهـم بيهـا يغيبـوا عـن الوعي شـوية، ويدخلـوا في حالـة مـن الهلاوس ومـا يشبه الأحـلام والـرؤى .. ويسألهم لمـا يفوقـوا هـمـا شـافوا إيـه أو حشـوا بإيـه.. ويخليهـم يسجلوا أو يرسـمـوا الـلـي شـافوه.. كتـير جـدا مـن النـاس كـانـوا بيوصفـوا إحساسهم بأنهم كانوا زي السمكة في البحـر.. وبعضهـم وصـف بشكل تفصيلي إحساسـه جـوه مـكان مغلق مليان مايـة، وبعضهـم رسـم بوضوح شديد رحـم مقفـول فيـه فتحة صغيرة داخـل منهـا نـور.. بعـض النـاس كـمان وصـفـوا شعورهم بالاختناق.. أو بالضغط الشديد حواليهـم.. أو بالزهـق والضيـق..(جـروف) بيفسر ده بأننـا كـلنـا عنـدنـا - على مستوى مـا مـن مستويات وعينا- مخزون هائـل مـن ذكريات وجودنا في الرحـم، ورغبة دائمة في العـودة ليـه.. والذكريات دي مـش بـس موجـودة في ذاكرتنا المخيـة.. لا.. دي موجـودة في جسمنا وخلايانـا فـيـمـا يعـرف حديثا باسم (الذاكرة الخلوية).. أو (ذكريات الخليـة).. وأن الذاكرة دي موجـود فيهـا كل الخبرات الـلي مزينـا بيهـا في الرحم.. الـلي بعضها ممكن يكون جيد وجميل وممتع.. وبعضها ممكن يكـون صعب وسيئ نتيجة رسايل نفسية بتوصل للجنين مـن الأم (مـش عايزاك، إنـت جيـت غلطة، يا ريت تنـزل) أو تغيرات كيميائيـة بتحصل في الدم الواصـل لـيـه مـن خلالهـا مـع تغير حالاتها النفسية


 أو العضوية.


 مش بس كده.. ده الكلام ده بيفسر حاجات كتير تاني.. عمرك حلمت أو تعرف حد حلم بالبحر؟ شوفت في المنام قبـل كـده أو حـد حكالـك إنـه شـاف نفسـه (أو حـد


 تاني) بيعـوم أو بيغرق؟ بتحب أو تعرف حد بيحب ينام في وضع الجنين؟


 كل ده ليـه نفس التفسير، ونابـع مـن نفـس المصـدر الداخـلي، اللي محتفظ بكل ثانية وكل تفصيلـة مـن مرحلـة هـامـة جـدا في وجـودك.. مرحلة حياة الجنين.. الـلي كنت بتعـوم فيهـا في بحـر الرحـم بأمواجـه ومـده وجـزره..


 المرحلة دي بتكون (الولادة) بالنسبة لها بمثابة (النهاية).. نهاية الجنة والمتعة والنعيـم.. علشان كده فيـه نظرية كاملة في علـم النفـس اسمها نظرية (صدمـة الولادة)..فيه كمان حلـم شـهير بيتكرر عنـد بعـض النـاس.. بنسميه حلـم نهاية العالم.. بيكون فيـه العـالم بينتهـي وبيتدمر.. ساعات زلزال.. ساعات مايـة مـن كل ناحية تغرق الناس والمباني.. ساعات رياح وعواصـف ومطـر.. أحـد تفسيرات الحلـم ده هـو إنـه وصـف تفصيلي للحظـة الـولادة اللي انهار فيهـا عـالم الجنين وانتهت فيها حيـاة الرحـم..


 صـور فيـه علـماء بيفسروا رغبة بعـض النـاس في الموت بأنهـا أحـد رغبتهم الأعمق في العودة للرحم.. المكان المقفول المظلـم الـلي مـا كانش فيه غير السكون والهدوء والفراغ. لكـن طبعـا دي صـورة مريضـة جـدا تستدعي العلاج النفسي المكثف.


 فيـه نـاس كـمان بتقول إن مجرد (النـوم هـو استعادة لذكريات السبات العميق داخل الرحم.. وأنـا شـخصيا شايف إن (الحضـن) هـو البديـل اليومـي الطبيعـي المتـاح لاسترجاع مشـاعر حضـن الرحم.


 واضح إن الموضوع كبير جدا.. بس مش معناه على الإطلاق إن اللي بيحب البحر والماية يبقى عاوز يرجع أو ينكص.. أو إن الحنين للرحم ده شيء مرضي أو مستهجن.. بالعكس.. دي حاجة طبيعيـة موجودة عند كل الناس في أحـد مستويات وعيهم. . وممكـن تكـون دافع للحركة وطاقة للنضج وأرضية متجددة للحياة..


 طيب.. إيه بقى ؟!


 بص يا سيدي..إحنـا في رحلـة.. بدأناهـا مختارين أو مضطرين أو الاتنين.. رحلـة بدأناهـا في الجنـة.. جنـة آدم.. وبنسعى في حياتنـا إننا نرجع ليهـا تاني.. بالعمـل والمشقة والصبر.. بالمعاملة الحسنة والأخلاق الطيبة والقـرب الحقيقـي مـن نفسنا ومـن النـاس ومـن ربنا.


 بعـض النـاس عاوزة تستسهل وتوصـل بسرعـة.. مـن خـلال طـرق مختصرة.. تبعـد فيهـا عـن النـاس وتكرههـم وتحكم عليهم وتسئ معاملتهـم تحت ادعاءات فارغة، وتبعـد عـن نفسها وتحقـر مـن شأنها وتتفنن في ذلها بمسميات مغلوطة، وتتصـور إن ده بيقربها مـن ربنا.. مع إنه في الحقيقـة مـش بيقربنـا مـن أي حاجـة..


 فيـه صـورة مصغرة للرحلة دي.. بدأناهـا في الرحم.. وجوانـا رغبـة دائمة للعـودة ليـه.. بعـض النـاس برضـه عـاوزة تستسهل وتوصـل بسرعـة.. مـن غـيـر خـوف .. مـن غير ألم.. من غير مسئولية.. مـرة بالمرض النفسي.. مـرة بالرغبة في المـوت.. مـرة بالهروب مـن النـاس.. لكـن ده في الآخـر مـش بيوصل لأي حاجـة..


 البحر حلو وجميل ومغري..


 لكن علشان تعوم..


 مهم تبذل شوية مجهود ومعافرة وكفاح..


 ساعات هاتمشي عكس التيار..


 ساعات هاتقف في وش الموج..


 ساعات هاتقاوم بكل قوتك..الاستسلام للغرق سهل..


 بس رحلة الحياة مليانة شرف..


 بعـد مـا تخلـص الفصـل ده.. عـاوزك تشـوف فيلـم (جرافيتـي) Gravity، وتركز في المشهد المبدع اللي بتظهـر فيـه بطلة الفيلم في وضـع الجنين داخـل مركبتهـا الفضائية، بعـد مـا انتهـت بيهـا جميع المحاولات.. وضاقت بيها كل السبل.. لكنهـا بعـد دقائـق.. تقرر إنهـا مـا تستسلمش.. وإنها تقبـل صعوبة الحياة.. وتتجاوز ألم الفقـد.. وتغامر وتجـازف وتقتحم الخطـر.. وتنزل على الأرض.. وتخطو خطواتهـا الأولى نحـو الحيـاة.. على شاطئ البحـر.. وكأنهـا لسه بتتعلـم المـشي.. بـكل إرادة، وإصرار ، وشجاعة..


 قوم بقـى اشرب شوية مايـة.. وكأنـك بتشرب للمرة الأولى.. حـس بيهـا.. استطعمها.. واكتشف معايا.. إن المايـة مـش زي مـا كـانـوا بيعلمونا في المدرسـة مـا لهـاش طعـم ولا لـون ولا رائحـة..


 الماية -على رأي د. مصطفى محمود- ليها طعم الحياة..


 ياللا.. هنا ودلوقت..


 جدد علاقتك بالماية..


 جدد علاقتك بالحياة..                                                                                                                                                                                                                                                                                                                دمتم طيبين والسلام.    

0 التعليقات:

إرسال تعليق