الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

نهضة اليابان


قامت اليابان بثلاث نهضات و ليس نهضة واحدة ، سأتكلم هنا عن النهضة الأولى عندما كانت اليابان دولة متخلفة مثلنا تماما و أسوأ عام 1871 .


في عام 1871 كانت قد بدأت للتو نهضة ميجي وبناء الدولة الحديثة. وقام قادة الحكومة الجديدة وموظفوها والطلاب اليابانيون الدارسون في الخارج بعبور البحار ساعين وراء الحصول على ”المخططات الهندسية لبناء الدولة الحديثة“. وشارك في رحلة ”بعثة إيواكورا“ أكثر من مئة شخص، مطلعين وجها لوجه على الأوضاع الدولية في ذلك الوقت.


في شهر يوليو/تموز من عام 1871 نجحت حكومة ميجي الجديدة في ثورتها السلمية المسماة ”إلغاء المقاطعات وإنشاء المحافظات“، حيث قامت بإلغاء 300 مقاطعة وتوحيد البلاد. وتم تنفيذ ذلك من خلال سلطة الإمبراطور الذي يعد بمثابة كبير الكهنة والذي يتخذ من ”قوة الطبيعة“ التي تستمر منذ القدم دربا للإله. وكان ذلك بمثابة تغيير شامل لدولة الشوغونية (دولة المقاطعات) التي استمرت لمدة 260 عاما، وتفكيك للنظام الإقطاعي. وبعد أربعة أشهر فقط، أصبح أحد قادة الثورة إيواكورا تومومي سفيرا فوق العادة، وأصبح القادة كيدو تاكايوشي وأوكوبو توشيميتشي نوابا له، وذهبوا في رحلة للإطلاع على أمريكا وأوروبا امتدت لمدة عام ونصف العام. فهل يا ترى من الممكن أن نشاهد حالات لمثل هذه الحالة التي تسافر فيها الشخصيات الرئيسية الثلاث سوية خارج الدولة بعد الثورة مباشرة ساعية للحصول على المخططات الهندسية لبناء الدولة الحديثة.


(ماذا لو كنا فعلنا ذلك بعد الخامس و العشرين من يناير ؟)


إيفاد السفير إيواكورا إلى أمريكا وأوروبا“ عمل للفنان ياماغوتشي هوشون (متحف سيتوكو التذكاري للفنون). تم رسم الأشخاص المسافرين والأشخاص المودعين. السفينة التي تطفو في عرض البحر هي ”رحلة أمريكا“ التي تحمل المجموعة المسافرة.


وبالإضافة إلى ذلك، رافق البعثة خمسون شخصا من النخبة التي ستقود الجيل القادم بدءا بإيتو هيروبومي وخمسون طالبا للدراسة في الخارج. حيث كان هناك نية للقيام بجمع الأبحاث الأولية حول التحديث الذي يقوم به فوكوزاوا يوكيتشي وشيبوساوا إيئتشي وغيرهم منذ نهاية عصر إيدو. ولو لم يكن لدى السلطة التنفيذية في الدولة الحديثة القدرة على التحرك للانتقال بشكل فوري للتنفيذ، لما كان من الممكن تحقيق مثل هذا الشيء.


كانت البعثة التي تتألف من الفريق الرئيسي ومجموعات موفدة من كل وزارة من الوزارات عبارة عن فريق بحث منظم قام بتحديد مواد البحث بشكل مسبق. حيث قاموا بزيارة 12 بلدا و120 مدينة وتجمعا سكنيا، وقاموا بأبحاث جادة ودقيقة لمعرفة جميع مجالات الحضارة الغربية مثل السياسة، الإدارات الحكومية والأمور العسكرية، العلاقات الدبلوماسية، الاقتصاد والصناعة، التعليم والدين، المواصلات والاتصالات، وحتى الثقافة والترفيه. وعملوا على فهم وإدراك الواقع الفعلي للحضارة الغربية، من خلال لقاء القادة والمستشارين ورؤساء الشركات الكبرى وكبار العلماء في كل دولة من تلك الدول.


راقبوا بهدوء أين يكمن سر ازدهار القوى الغربية. وأدركوا أن ذلك الازدهار قد تحقق من خلال التقدم التكنولوجي، والازدهار الصناعي والتجاري، وعمل المواطنين بجد. وتجولوا في جميع أرجاء بريطانيا بالتحديد، وقاموا بمعاينة منشآت السكك الحديدية والاتصالات، ومصانع الفحم والصلب ومختلف مصانع الآلات، وحتى مصانع الجعة والبسكويت بالتفصيل، فاقتربوا من الواقع الفعلي للثورة الصناعية. وبالعودة بالتاريخ إلى الوراء، علموا أن هذا التقدم تم تحقيقه خلال أربعين إلى خمسين عاما على أبعد تقدير.


لم ينظروا إلى الجانب المشرق من الحضارة الغربية فقط، بل إلى الجانب المظلم أيضا. حيث كان يوجد في لندن التي كانت في قمة ازدهارها في ذلك الوقت أحياء للفقراء يتجمع فيها المواطنون الفقراء، وقاموا بزيارة تلك الأماكن بالفعل. وأيضا لاحظوا انتشار الاحتيال والسرقة. وحتى في باريس عاصمة الزهور التي تتربع على عرش الحضارة الثقافية، علموا أنه كان فيها مأساة كبيرة تتمثل في الثورة الفرنسية الرابعة أو ما يسمى بكمونة باريس بعد خسارة الحرب مع ألمانيا قبل وقت قريب. وفي برلين تمت دعوتهم من قبل بسمارك واستمعوا إلى تجربته حول واقع ”مجتمع الغاب“. وأيضا في طريق عودتهم مروا بالدول العربية والآسيوية، وشاهدوا بشكل فعلي بيوت الدعارة المتهالكة والاضطرابات المحلية في سومطرة، وتجارة الأفيون في هونغ كونغ، واستشعروا بؤس المستعمرات التي كانت محكومة من قبل الدول العظمى.


وأيضا تعلموا الاختلافات في النظم السياسية لكل دولة من الدول بما يتماشى مع واقعها. فعلى الرغم من أن أمريكا دولة شاسعة المساحة، إلا أن تاريخها ضحل، ووضعها مختلف عن اليابان بشكل كبير. وكانت روسيا دولة متأخرة تحت حكم النظام الملكي المطلق، وكانت بلجيكا وهولندا وسويسرا دولا صغيرة للغاية. وشعرت الغالبية العظمى أنه يجب المضي قدما بالطريقة الألمانية في البداية مع تطبيق النموذج البريطاني. وأدركوا إلى أي مرحلة وصلت اليابان من مراحل التطور الحضاري العالمي، وعرفوا أنه من الممكن اللحاق بالدول المتطورة خلال بضع عشرات من السنين، ولكن انتبهوا إلى أنه ”لا يمكن الانفتاح بين عشية وضحاها“، وأنه لا بد من التطبيق التدريجي بثبات.


وكان الاكتشاف الأكثر إثارة للصدمة هو أن الديانة المسيحية هي الدعامة الروحية للحضارة الغربية. حيث لاحظوا أنها تنمي أخلاق الناس، وتشكل أساس الاجتهاد. فكانت القضية الرئيسية هي هل من الممكن إيجاد شيء يحل محل الديانة المسيحية في اليابان أم لا.


لقد كانت هذه الرحلة بمثابة معسكر تدريبي. حيث كانت المجموعات تقوم بالنقاش والتعلم من بعضها البعض بشكل يومي، وأدت التجارب والمعرفة التي تم تشاركها إلى اتخاذ الإجراءات التي تتماشى مع الواقع بعد العودة إلى البلاد. وكان العمود الفقري لمثل تلك الإجراءات هو إعادة التأكيد على ”الروح اليابانية ذات المعرفة الغربية“ التي كان يتلوها مستشرفي المستقبل ساكوما شوزان ويوكوي شونان منذ نهاية عصر إيدو، وإعادة التأكيد على الحاجة إلى ”بناء القوة الاقتصادية والعسكرية“ و”زيادة الإنتاج الصناعي“. والقيام بالتأكيد على ذلك من قبل الجميع كشرط لليابان حتى تعيش كدولة مستقلة أمر ذو أهمية كبيرة.


بعد العودة إلى البلاد، أوقف الأعضاء الرئيسيون في البعثة ميل أعضاء الحكومة الذين بقوا في اليابان إلى ”غزو كوريا“، وتوجهوا نحو التركيز على تحسين الشؤون الداخلية. وتجنبوا التحركات المتعجلة، وأوضحوا سياسات المضي بالانفتاح بشكل تدريجي، وقاموا بقيادة الحكومة الجديدة بوسائل الاحتكار والديكتاتورية التنموية برئاسة أوكوبو. وبعد وفاة كيدو وأوكوبو أمسك إيتو هيروبومي بالسلطة، وبدأ بالعمل على وضع دستور ياباني خاص. وقرر القيام بجعل مكانة الإمبراطور محورا رئيسيا في الدستور الجديد كبديل للديانة المسيحية. وتأثر ذلك القرار إلى حد كبير بتقدير البروفيسور موريس بلوك في باريس بالنظام الإمبراطوري، ونصيحة البروفيسور لورينز فون شتاين في فينّا بأنه يجب أن يكون الدستور مستندا إلى التقاليد اليابانية.


دمتم طيبين والسلام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق